السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(فاعلم أنَّه لا إله إلا الله)
خباب بن مروان الحمد
نزلت هذه الآية الكريمة على نبينا محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بعد ثلاث عشرة سنة من دعوته إلى التوحيد ،
واستفراغ وسعه في التبليغ والإنذار لكفَّار قريش ومن لفَّ لفَّهم.
ويحقٌّ
للمتأمل في كتاب الله ، أن يرجع الفكر كرَّتين بل كرَّات في تدبُّر هذه
الآية ، إذ إنها تأمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتعلُّم التوحيد ، ومعرفة
الله ـ عزَّ وجلَّ ـ حق المعرفة، مع أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـأفضل
الأنبياء والمرسلين ،
وأعرفهم بربِّ العالمين ، بل دعا بهذه الكلمة الكفَّار والمشركين ، كما روى ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه وكان
جاهلياً فأسلم، قال: (( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول:
يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً،
وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (15448)
وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني في " إرواء الغليل " ( 834 ))
ولعل الفوائد
المستنبطة من إنزال هذه الآية على نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ
بعد ثلاثة عشر عاماً في دعوته إلى التوحيد، ونزولها على عموم البشر من بعده
، لعلَّها تضبط في عدَّة نقاط محورية ، يجدر التنبه لها ، ويحسن تسليط
الضوء عليها ، فمنها:
1ـ أنَّ فيها دلالة واضحة في التأكيد على وجوب توحيد الله ومعرفته ، ولو كان الداعية إلى ذلك من كبار الموحدين
لأنَّ النفس لايقوى إيمانها بالله ، ولا تنبعث فيها روح الدعوة إلى الله ، ولا ينقدح بين جوانبها التبيلغ والنذارة لهذا الدين
ولا يقوى ولاؤها لله ، ولا براؤها من أعدائه ، ولا تهفو للجهاد في سبيل الله ، إلَّا إذا كانت دعائم التوحيد فيها راسخة
وصلابة الإيمان في جذورها متعمقة ، فينتج من ذلك ، قوَّة العمل لهذا الدين ، وعلو الهمة في بثِّه بين أنحاء المعمورة
وصلابة الإرادة في ذلك ، وقوَّة الصبر على ما تواجهه من مصاعب وعراقيل ،
إثر قيامها بالتعليم ، وتبليغ دين رب العالمين (أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره).
ولهذا فإنَّ الجهاد في سبيل الله ، لم يشرع عبثاً، بل شرع لأجل حماية ونشر راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)
لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتحطيم جميع المكابرين الذين يحولون بين دعوة التوحيد وبين الناس ،
حتى تصل إليهم بنقائها وصفائها ، وتخلصهم من أدران الوثنية ، وشوائب الشرك والعبودية لغير الله ،
ويدل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبَد الله وحده لا يشرك به شيئاً)
والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده(7/123ـ125) وجوَّد إسناده ابن تيمية في الاقتضاء ،
وحسَّنه ابن حجر وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر ،والألباني ـ رحمهم الله ـ فالغاية من الجهاد تعبيد الناس لربِّ العالمين،
والإبقاء على ملَّة إبراهيم حنيفاً مسلماً ، وما كان من المشركين.
2ـ أنَّ العبد المؤمن يحتاج للمزيد من تدبر هذه القضية الكبرى ، والحقيقة العظمى في الكون والحياة مطلقاً ؛
إذ إنَّ الشيطان أقسم بإضلال الناس وغوايتهم ، بحيله الماكرة ، فقال:
(ولأضلنَّهم
ولأمنِّينَّهم ولآمرنهم فليبتكنَّ آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرنَّ خلق
الله) فلا رادَّ لذلك ، ولا عاصم إلَّا الاستمساك والاعتصام بتوحيد الله ،
وتصفية النفس من درن الباطل ، والرَّان المنطبع على القلب ، وذلك لا يتمُّ
إلَّا، بقوَّة التوحيد في القلب؛ فالتوحيد كما أنَّه صلب ، ولا يحتمل
التموُّج والمساومة في مبادئه ، فهو كذلك شفَّاف يقدح فيه أدنى شيء يخلُّ
بلوازمه ومقتضياته ،
وقد عبَّر عن ذلك الإمام ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ بقوله:
(التوحيد أشفُّ شيء وأنزهه ، وأنصعه وأصفاه وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثِّر فيه ، فهو كأبيض ثوب يكون ،
يؤثِّر فيه أدنى أثر ، وكالمرآة الصافية جدَّاً ، أدنى شيء يؤثِّر فيها ، ولهذا تشوهه اللحظة واللفظة والشهوة الخفيِّة)
(الفوائد لابن القيم/42)
ويقصد ـ رحمه الله ـ باللحظة:
النظر إلى ماحرَّم الله . واللفظة:الكلام الذي يتكلم به الإنسان سواء من شرك بالله ، أوالكلام الذي لا يلقي له
بالاً يقذف به في النار سبعين خريفاً . والشهوة الخفية:إمَّا أنَّها حب الرئاسة والإمارة ، أو أنَّها الرياء وعدم الإخلاص لله.
ولهذا فإنَّه ـ تعالى ـ يوصي الصحابة ، ومن بعدهم من أهل الإيمان ، بالإيمان بالله ورسوله ، وإن كانوا مؤمنين ،
ليؤكد عليهم هذا المبدأ الثمين ، حتى يقوى إيمانهم بالله ، وتشتد قلوبهم على تحمُّل ما يرضيه ـ سبحانه ـ فيقول ـ تعالى ـ:
(يا أيَّها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذين نزَّل على رسوله)
فهنا يدعو ـ جلَّ
جلاله ـ أهل الإيمان إلى زيادة الإيمان بالله ، وقوَّة الإصرار على ذلك ،
لأنَّه ليس كلَّ من قال لاإله إلَّا الله،
وأظهر إيمانه باليوم الآخر يكون مسلماً ؛ويدلُّ لذلك ـ قوله تعالى ـ:
(ومن الناس من يقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين*يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون).
3ـ لاشكَّ أن الأمر بهذه الآية ليس خاصاً بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فحسب ؛ وعليه فإنَّ علاج الخلل في التوحيد ،
وكما أنَّه يتمُّ
بدرء الخلل عنه، وتخلية القلب منه ، إلَّا أنه يحتاج إلى تمكين عرى
الإيمان ، وعُقَدِ التوحيد في القلب ، وتحليته به ، ليخالط بشاشة الإيمان
القلوب ، فيتم بذلك تخلية وتحلية ، وكما يقول الأصوليون:التخلية قبل
التحلية،
فيخلِّي الإنسان عن قلبه شوائب الانحراف العقدي ، ويحليه ببلسم الإيمان ، وصفاء الاعتقاد ، ونقاوة التوحيد .
والحقيقة أنَّ أيَّ خلل طارئ على من وحَّد الله ، لا يكون ذلك إلَّا بعدة أشياء ، ومن ألزمها ذكراً:
أ ـ ضعف مراقبة الله ، وقلَّة الوازع الديني الذي ينبغي أن يتنامى في القلب ، حتى لا يكون القلب كالكوز مجخياً ،
لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً.
ب ـ
ضعف ارتباط العبد بربه من نواحي العبادة كالرجاء والخوف والمحبة والاستعانة
والاستغاثة ، وقلة الانطراح بين يديه ، والانكباب على عتبة بابه ، مع أنَّ
هذا الأمر من أشدِّ الأمور ، التي لزمها الأنبياء والأولياء الصالحون،
ومنهم إبراهيم ـ
عليه السلام ـ حيث كان داعية للتوحيد ، ومحطماً لأوثان المشركين ، ومع هذا فقد خاف على نفسه من أن تشاب
بلوثات شركية، فقال لربه داعياًواجنبني وبني أن نعبد الأصنام)(سورة إبراهيم /35)
ومكمن المسألة في ذلك ؛ دعاء إبرهيم ربَّه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام . ثمَّ يبين إبراهيم ـ عليه السلام ـ سبب دعائه ،
فيقول ربِّ إنَّهنَّ أضللن كثيراً من الناس) ولهذا علَّق الإمام إبراهيم التيمي على قول إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ
قائلاً:ومن يأمن
البلاء بعد أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ؟(فتح المجيد شرح كتاب
التوحيد ، للشيخ:عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ/ صـ 74)
ومما يستنتج
من دعائه ـ عليه السلام ـ أن الأشياء التي تعبد من دون الله ، قد يكون لها
حجم واسع من التأثير على الناس ، بإضلالهم عن الصراط المستقيم ، ويمثِّل
أهل العلم عليه بأمثلة ، أقتصر على أحدها: وهو أن يأتي شخص يدعو أحد
الطواغيت التي يقصدها بالدعاء من دون الله ، ويرجوها بأن يمنَّ الله على زوجته العقيم ، بأن تنجب طفلاً ،
بعد عشر سنوات ، ثمَّ يفاجأ بمن يبشِّره بعد أشهر قليلة بطفل يتكوَّر في بطن زوجته ، فيطير فرحاً ،
ويذهب لذلك الطاغوت ، ويشكره ، ويزداد تعلقه به ، وهكذا مع العلم بأنَّ هذا الرجل الذي دعا غير الله ،
أراد الله أن يرزقه الولد وقت دعائه ، فيرزق الولد بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية،وليس بإرادة الذي لا يسمع
ولا يبصر ، فيفتن الرجل بذلك الطاغوت،ويلتجئ إليه في سرِّه وعلانيته،وفي شدَّته ورخائه ـ عياذاً بالله ـ
(ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً).
4 ـ في هذه الآية تنبيه لبعض الدعاة القائلين بأنَّ قضية التوحيد سهلة ، ولاتحتاج إلى ذلك التكثيف العلمي والتعليمي ،
أو أنَّ لدينا من هموم الأمة ما يحوجنا بالكلام عنها أكثر من قضية باتت معروفة في أذهان المسلمين،
والجواب عن ذلك:
أ ـ أنَّه ـ تعالى ـ ما خلقنا إلا لعبوديته وتوحيده ، وإرساء تلك المعالم العقدية في قلوبنا، فقال:
(وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون) ، ولو كانت دعوة التوحيد يسيرة لما جلس ـ عليه الصلاة و السلام ـ
ثلاثة عشر سنة يدعو لذلك الناس مسلمهم وكافرهم.
مسلمهم: لكي يتأكد ذلك في قلوبهم وليكوِّن ـ عليه الصلاة والسلام ـ من قلوبهم قاعدة صلبة للبناء الإيماني ،
لتتحمل الواجبات والفرائض المفروضة من قِبَلِهِ تعالى.
وأمَّا كافرهم: فلتقوم الحجَّة عليهم ، بالبلاغ المبين ، والبيان الواضح ، ولهذا بقي ـ عليه الصلاة والسلام ـ
يدعو لذلك جميع الناس حتى قبضت روحه الشريفه ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ليبقى التوحيد في قلوب المسلمين صلباً ،
لا تزعزعه أعاصير الشرك العاتية ، ولا رياح التغيير المنحرفة عن المنهج الإسلامي.
ب ـ أنَّ التوحيد ليس قضية سهلة ، بل إنَّ هذه القضية على شفافيتها ، فإنَّ تطبيقها والعمل بها من أصعب ما يكون ،
ولهذا قال ـ سبحانه ـ إنَّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) قال الإمام مالك: ليس في دين الإسلام شيء سهل ،
واستدلَّ بهذه الآية .
والمقصود أنَّ التوحيد والإيمان يحتاج سنوات عديدة في العمل لأجله، ومجاهدة النفس على تنقيتها مما يخل بذلك ،
لتتأصل النفس على الإبقاء عليه ، والاستمساك بحبله ، وقد قال جندب بن عبدالله : تعلمنا الإيمان ثمَّ تعلمنا القرآن ،
فازددنا به إيماناً.
ج ـ إنَّ مآسي الأمة ونكباتها لاريب أنَّها تبعث الأسى في القلب،ولكنها راجعة لعدة أسباب أولها ذكراً:
ضعف إيماننا بالله وتعلقنا به وعبوديته الخالصة ، فكم يوجد في عصرنا من المنتسبين إلى الإسلام ، يشركون بالله ،
ويقصدون القبور للطواف حولها ، والتعلق بأصحابها ، والاستغاثة بهم .
وكم هو منتشر في بلاد المسلمين التحاكم إلى القوانين الوضعية المغايرة للمنهج الإسلامي .
وكم من منافق يدسُّ سمَّه في الظلام ، ويطعن المسلمين خلف ظهورهم ، وكم من خائن يدلُّ أهل الكفر على
المسلمين المستضعفين ، ويبيع دينه بثمن بخس.
وكم يُعْرَض في وسائل الإعلام من الأمورالمنحرفة عن التوحيد الخالص بتعظيم الكفار ، والتشبه بهم ، والتمنطق بأقوالهم ،
والتهنئة بأعيادهم ، وربط صلات التآخي معهم.
وكم هو منتشر في بلاد المسلمين السحر والسحرة والشعوذة والتعلق بالرقى والتمائم والتعاويذ الشركية.
وكم انتشرت البدع والانحرافات الفكرية ما بين مقلٍّ ومكثرٍ في عقول الكثير من المسلمين.
وبعد...ألا تحتاج هذه كلها إلى وقفة محاسبة ، ترجعنا إلى أهمية الإعادة والتكرار لمبادئ التوحيد ، وقضاياه الكلية ،
من قِبَلِ دعاة الإسلام ، ومن ثمَّ تنبيه الناس لذلك ، وعقد الندوات المتتابعة لأجله ، في جميع أنحاء الأرض ،
ليكون المسلمون في حصن حصين ، وحرز مكين ، من كلِّ داعية سوء ، أو صاحب ضلالة مردية ،
تجنح بهم إلى الكفر والفسوق والعصيان ،
وقد أحسن محمد إقبال حين قال:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دينٍ *** فقد جعل الفناء لها قريناً
وفي التوحيد للهمم اتحاد *** ولن تبنوا العلا متفرقينا
فهل نعاود قراءة القرآن ، وكتب أهل العلم ونستفيد منها دروساً في التوحيد والإيمان ، ونطبقها في أرض الواقع ،
ودنيا الناس ، مقتفين أثر سلفنا الصالح ، حين اهتموا بهذه القضية وأولوها عناية تامَّة ، وقدَّموها
على جميع العلوم والمعارف ، ورحم الله الإمام أبا حنيفة حين قال مؤكداً على أهمية التفقه في التوحيد:
الفقه في الدين أفضل من التفقه في العلم ، وصدق من قال:
أيُّها المغتذي ليطلب علماً *** كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح أصلاً *** كيف أغفلت علمَ أصلِ الأصولِ
(انظر البيتين/شرح ابن أبي العز للطحاوية / صـ76)
أسأله ـ تعالى ـ أن يميتنا على الإسلام ، والتوحيد الخالص غير مبدلين ولا مغيرين ، ومن الله العون والسداد ،
وهو الموفق للرشاد.
المصدر :موقع صيد الفوائد
(نشرت هذه المقالة في مجلة منارات ، في العدد الثامن)
(فاعلم أنَّه لا إله إلا الله)
خباب بن مروان الحمد
نزلت هذه الآية الكريمة على نبينا محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بعد ثلاث عشرة سنة من دعوته إلى التوحيد ،
واستفراغ وسعه في التبليغ والإنذار لكفَّار قريش ومن لفَّ لفَّهم.
ويحقٌّ
للمتأمل في كتاب الله ، أن يرجع الفكر كرَّتين بل كرَّات في تدبُّر هذه
الآية ، إذ إنها تأمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتعلُّم التوحيد ، ومعرفة
الله ـ عزَّ وجلَّ ـ حق المعرفة، مع أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـأفضل
الأنبياء والمرسلين ،
وأعرفهم بربِّ العالمين ، بل دعا بهذه الكلمة الكفَّار والمشركين ، كما روى ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه وكان
جاهلياً فأسلم، قال: (( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول:
يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً،
وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (15448)
وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني في " إرواء الغليل " ( 834 ))
ولعل الفوائد
المستنبطة من إنزال هذه الآية على نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ
بعد ثلاثة عشر عاماً في دعوته إلى التوحيد، ونزولها على عموم البشر من بعده
، لعلَّها تضبط في عدَّة نقاط محورية ، يجدر التنبه لها ، ويحسن تسليط
الضوء عليها ، فمنها:
1ـ أنَّ فيها دلالة واضحة في التأكيد على وجوب توحيد الله ومعرفته ، ولو كان الداعية إلى ذلك من كبار الموحدين
لأنَّ النفس لايقوى إيمانها بالله ، ولا تنبعث فيها روح الدعوة إلى الله ، ولا ينقدح بين جوانبها التبيلغ والنذارة لهذا الدين
ولا يقوى ولاؤها لله ، ولا براؤها من أعدائه ، ولا تهفو للجهاد في سبيل الله ، إلَّا إذا كانت دعائم التوحيد فيها راسخة
وصلابة الإيمان في جذورها متعمقة ، فينتج من ذلك ، قوَّة العمل لهذا الدين ، وعلو الهمة في بثِّه بين أنحاء المعمورة
وصلابة الإرادة في ذلك ، وقوَّة الصبر على ما تواجهه من مصاعب وعراقيل ،
إثر قيامها بالتعليم ، وتبليغ دين رب العالمين (أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره).
ولهذا فإنَّ الجهاد في سبيل الله ، لم يشرع عبثاً، بل شرع لأجل حماية ونشر راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)
لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتحطيم جميع المكابرين الذين يحولون بين دعوة التوحيد وبين الناس ،
حتى تصل إليهم بنقائها وصفائها ، وتخلصهم من أدران الوثنية ، وشوائب الشرك والعبودية لغير الله ،
ويدل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبَد الله وحده لا يشرك به شيئاً)
والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده(7/123ـ125) وجوَّد إسناده ابن تيمية في الاقتضاء ،
وحسَّنه ابن حجر وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر ،والألباني ـ رحمهم الله ـ فالغاية من الجهاد تعبيد الناس لربِّ العالمين،
والإبقاء على ملَّة إبراهيم حنيفاً مسلماً ، وما كان من المشركين.
2ـ أنَّ العبد المؤمن يحتاج للمزيد من تدبر هذه القضية الكبرى ، والحقيقة العظمى في الكون والحياة مطلقاً ؛
إذ إنَّ الشيطان أقسم بإضلال الناس وغوايتهم ، بحيله الماكرة ، فقال:
(ولأضلنَّهم
ولأمنِّينَّهم ولآمرنهم فليبتكنَّ آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرنَّ خلق
الله) فلا رادَّ لذلك ، ولا عاصم إلَّا الاستمساك والاعتصام بتوحيد الله ،
وتصفية النفس من درن الباطل ، والرَّان المنطبع على القلب ، وذلك لا يتمُّ
إلَّا، بقوَّة التوحيد في القلب؛ فالتوحيد كما أنَّه صلب ، ولا يحتمل
التموُّج والمساومة في مبادئه ، فهو كذلك شفَّاف يقدح فيه أدنى شيء يخلُّ
بلوازمه ومقتضياته ،
وقد عبَّر عن ذلك الإمام ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ بقوله:
(التوحيد أشفُّ شيء وأنزهه ، وأنصعه وأصفاه وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثِّر فيه ، فهو كأبيض ثوب يكون ،
يؤثِّر فيه أدنى أثر ، وكالمرآة الصافية جدَّاً ، أدنى شيء يؤثِّر فيها ، ولهذا تشوهه اللحظة واللفظة والشهوة الخفيِّة)
(الفوائد لابن القيم/42)
ويقصد ـ رحمه الله ـ باللحظة:
النظر إلى ماحرَّم الله . واللفظة:الكلام الذي يتكلم به الإنسان سواء من شرك بالله ، أوالكلام الذي لا يلقي له
بالاً يقذف به في النار سبعين خريفاً . والشهوة الخفية:إمَّا أنَّها حب الرئاسة والإمارة ، أو أنَّها الرياء وعدم الإخلاص لله.
ولهذا فإنَّه ـ تعالى ـ يوصي الصحابة ، ومن بعدهم من أهل الإيمان ، بالإيمان بالله ورسوله ، وإن كانوا مؤمنين ،
ليؤكد عليهم هذا المبدأ الثمين ، حتى يقوى إيمانهم بالله ، وتشتد قلوبهم على تحمُّل ما يرضيه ـ سبحانه ـ فيقول ـ تعالى ـ:
(يا أيَّها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذين نزَّل على رسوله)
فهنا يدعو ـ جلَّ
جلاله ـ أهل الإيمان إلى زيادة الإيمان بالله ، وقوَّة الإصرار على ذلك ،
لأنَّه ليس كلَّ من قال لاإله إلَّا الله،
وأظهر إيمانه باليوم الآخر يكون مسلماً ؛ويدلُّ لذلك ـ قوله تعالى ـ:
(ومن الناس من يقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين*يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون).
3ـ لاشكَّ أن الأمر بهذه الآية ليس خاصاً بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فحسب ؛ وعليه فإنَّ علاج الخلل في التوحيد ،
وكما أنَّه يتمُّ
بدرء الخلل عنه، وتخلية القلب منه ، إلَّا أنه يحتاج إلى تمكين عرى
الإيمان ، وعُقَدِ التوحيد في القلب ، وتحليته به ، ليخالط بشاشة الإيمان
القلوب ، فيتم بذلك تخلية وتحلية ، وكما يقول الأصوليون:التخلية قبل
التحلية،
فيخلِّي الإنسان عن قلبه شوائب الانحراف العقدي ، ويحليه ببلسم الإيمان ، وصفاء الاعتقاد ، ونقاوة التوحيد .
والحقيقة أنَّ أيَّ خلل طارئ على من وحَّد الله ، لا يكون ذلك إلَّا بعدة أشياء ، ومن ألزمها ذكراً:
أ ـ ضعف مراقبة الله ، وقلَّة الوازع الديني الذي ينبغي أن يتنامى في القلب ، حتى لا يكون القلب كالكوز مجخياً ،
لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً.
ب ـ
ضعف ارتباط العبد بربه من نواحي العبادة كالرجاء والخوف والمحبة والاستعانة
والاستغاثة ، وقلة الانطراح بين يديه ، والانكباب على عتبة بابه ، مع أنَّ
هذا الأمر من أشدِّ الأمور ، التي لزمها الأنبياء والأولياء الصالحون،
ومنهم إبراهيم ـ
عليه السلام ـ حيث كان داعية للتوحيد ، ومحطماً لأوثان المشركين ، ومع هذا فقد خاف على نفسه من أن تشاب
بلوثات شركية، فقال لربه داعياًواجنبني وبني أن نعبد الأصنام)(سورة إبراهيم /35)
ومكمن المسألة في ذلك ؛ دعاء إبرهيم ربَّه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام . ثمَّ يبين إبراهيم ـ عليه السلام ـ سبب دعائه ،
فيقول ربِّ إنَّهنَّ أضللن كثيراً من الناس) ولهذا علَّق الإمام إبراهيم التيمي على قول إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ
قائلاً:ومن يأمن
البلاء بعد أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ؟(فتح المجيد شرح كتاب
التوحيد ، للشيخ:عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ/ صـ 74)
ومما يستنتج
من دعائه ـ عليه السلام ـ أن الأشياء التي تعبد من دون الله ، قد يكون لها
حجم واسع من التأثير على الناس ، بإضلالهم عن الصراط المستقيم ، ويمثِّل
أهل العلم عليه بأمثلة ، أقتصر على أحدها: وهو أن يأتي شخص يدعو أحد
الطواغيت التي يقصدها بالدعاء من دون الله ، ويرجوها بأن يمنَّ الله على زوجته العقيم ، بأن تنجب طفلاً ،
بعد عشر سنوات ، ثمَّ يفاجأ بمن يبشِّره بعد أشهر قليلة بطفل يتكوَّر في بطن زوجته ، فيطير فرحاً ،
ويذهب لذلك الطاغوت ، ويشكره ، ويزداد تعلقه به ، وهكذا مع العلم بأنَّ هذا الرجل الذي دعا غير الله ،
أراد الله أن يرزقه الولد وقت دعائه ، فيرزق الولد بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية،وليس بإرادة الذي لا يسمع
ولا يبصر ، فيفتن الرجل بذلك الطاغوت،ويلتجئ إليه في سرِّه وعلانيته،وفي شدَّته ورخائه ـ عياذاً بالله ـ
(ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً).
4 ـ في هذه الآية تنبيه لبعض الدعاة القائلين بأنَّ قضية التوحيد سهلة ، ولاتحتاج إلى ذلك التكثيف العلمي والتعليمي ،
أو أنَّ لدينا من هموم الأمة ما يحوجنا بالكلام عنها أكثر من قضية باتت معروفة في أذهان المسلمين،
والجواب عن ذلك:
أ ـ أنَّه ـ تعالى ـ ما خلقنا إلا لعبوديته وتوحيده ، وإرساء تلك المعالم العقدية في قلوبنا، فقال:
(وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون) ، ولو كانت دعوة التوحيد يسيرة لما جلس ـ عليه الصلاة و السلام ـ
ثلاثة عشر سنة يدعو لذلك الناس مسلمهم وكافرهم.
مسلمهم: لكي يتأكد ذلك في قلوبهم وليكوِّن ـ عليه الصلاة والسلام ـ من قلوبهم قاعدة صلبة للبناء الإيماني ،
لتتحمل الواجبات والفرائض المفروضة من قِبَلِهِ تعالى.
وأمَّا كافرهم: فلتقوم الحجَّة عليهم ، بالبلاغ المبين ، والبيان الواضح ، ولهذا بقي ـ عليه الصلاة والسلام ـ
يدعو لذلك جميع الناس حتى قبضت روحه الشريفه ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ليبقى التوحيد في قلوب المسلمين صلباً ،
لا تزعزعه أعاصير الشرك العاتية ، ولا رياح التغيير المنحرفة عن المنهج الإسلامي.
ب ـ أنَّ التوحيد ليس قضية سهلة ، بل إنَّ هذه القضية على شفافيتها ، فإنَّ تطبيقها والعمل بها من أصعب ما يكون ،
ولهذا قال ـ سبحانه ـ إنَّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) قال الإمام مالك: ليس في دين الإسلام شيء سهل ،
واستدلَّ بهذه الآية .
والمقصود أنَّ التوحيد والإيمان يحتاج سنوات عديدة في العمل لأجله، ومجاهدة النفس على تنقيتها مما يخل بذلك ،
لتتأصل النفس على الإبقاء عليه ، والاستمساك بحبله ، وقد قال جندب بن عبدالله : تعلمنا الإيمان ثمَّ تعلمنا القرآن ،
فازددنا به إيماناً.
ج ـ إنَّ مآسي الأمة ونكباتها لاريب أنَّها تبعث الأسى في القلب،ولكنها راجعة لعدة أسباب أولها ذكراً:
ضعف إيماننا بالله وتعلقنا به وعبوديته الخالصة ، فكم يوجد في عصرنا من المنتسبين إلى الإسلام ، يشركون بالله ،
ويقصدون القبور للطواف حولها ، والتعلق بأصحابها ، والاستغاثة بهم .
وكم هو منتشر في بلاد المسلمين التحاكم إلى القوانين الوضعية المغايرة للمنهج الإسلامي .
وكم من منافق يدسُّ سمَّه في الظلام ، ويطعن المسلمين خلف ظهورهم ، وكم من خائن يدلُّ أهل الكفر على
المسلمين المستضعفين ، ويبيع دينه بثمن بخس.
وكم يُعْرَض في وسائل الإعلام من الأمورالمنحرفة عن التوحيد الخالص بتعظيم الكفار ، والتشبه بهم ، والتمنطق بأقوالهم ،
والتهنئة بأعيادهم ، وربط صلات التآخي معهم.
وكم هو منتشر في بلاد المسلمين السحر والسحرة والشعوذة والتعلق بالرقى والتمائم والتعاويذ الشركية.
وكم انتشرت البدع والانحرافات الفكرية ما بين مقلٍّ ومكثرٍ في عقول الكثير من المسلمين.
وبعد...ألا تحتاج هذه كلها إلى وقفة محاسبة ، ترجعنا إلى أهمية الإعادة والتكرار لمبادئ التوحيد ، وقضاياه الكلية ،
من قِبَلِ دعاة الإسلام ، ومن ثمَّ تنبيه الناس لذلك ، وعقد الندوات المتتابعة لأجله ، في جميع أنحاء الأرض ،
ليكون المسلمون في حصن حصين ، وحرز مكين ، من كلِّ داعية سوء ، أو صاحب ضلالة مردية ،
تجنح بهم إلى الكفر والفسوق والعصيان ،
وقد أحسن محمد إقبال حين قال:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دينٍ *** فقد جعل الفناء لها قريناً
وفي التوحيد للهمم اتحاد *** ولن تبنوا العلا متفرقينا
فهل نعاود قراءة القرآن ، وكتب أهل العلم ونستفيد منها دروساً في التوحيد والإيمان ، ونطبقها في أرض الواقع ،
ودنيا الناس ، مقتفين أثر سلفنا الصالح ، حين اهتموا بهذه القضية وأولوها عناية تامَّة ، وقدَّموها
على جميع العلوم والمعارف ، ورحم الله الإمام أبا حنيفة حين قال مؤكداً على أهمية التفقه في التوحيد:
الفقه في الدين أفضل من التفقه في العلم ، وصدق من قال:
أيُّها المغتذي ليطلب علماً *** كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح أصلاً *** كيف أغفلت علمَ أصلِ الأصولِ
(انظر البيتين/شرح ابن أبي العز للطحاوية / صـ76)
أسأله ـ تعالى ـ أن يميتنا على الإسلام ، والتوحيد الخالص غير مبدلين ولا مغيرين ، ومن الله العون والسداد ،
وهو الموفق للرشاد.
المصدر :موقع صيد الفوائد
(نشرت هذه المقالة في مجلة منارات ، في العدد الثامن)